بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، أشرف الخلق وإمام المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد...
أوَّلًا: معنى التَّغافُلِ
التَّغافُلُ لُغةً:
الغَفلةُ: غَيبةُ الشَّيءِ عن بالِ الإنسانِ وعَدَمُ تذكُّرِه له. وأغفَلْتُ الشَّيءَ إغفالًا: تركتُه إهمالًا من غيرِ نِسيانٍ. وتغافَل: أرى من نفسِه ذلك وليس به، والتَّغافُلُ: تعمُّدُ الغفلةِ، أي: بالسَّهوِ وقِلَّةِ التَّيقُّظِ.
التَّغافُلُ اصطِلاحًا:
التَّغافُلُ: هو وَضعُ الغفلةِ في موضِعِها الذي يُذَمُّ فيه البحثُ والتَّقَصِّي؛ فهو فَهمٌ للحقيقةِ، وإضرابٌ عن الطَّيشِ، واستعمالٌ للحِلمِ، وتسكينٌ للمَكروهِ.
ثانيًا: الفَرقُ بَينَ التَّغافُلِ وغيره من الصفاتِ
- الفَرقُ بَينَ الغَفلةِ والتَّغافُلِ:-
أنَّ الغفلةَ تقعُ من الإنسانِ؛ حيث ينبغي عليه أن يتحَفَّظَ وأن ينتَبِهَ، وقد يكونُ مَنشؤُها الجَهلَ، أمَّا التَّغافُلُ فهي غَفلةٌ وقعت عن قَصدٍ وإرادةٍ وتيقُّظٍ وعلمٍ، فحُمِد التَّغافُلُ وذُمَّت الغفلةُ.
- الفَرقُ بَينَ التَّغافُلِ والتَّغابي والتَّغاضي والتَّجاهُلِ:-
التَّغافُلُ: هو أن يتظاهَرَ بالغفلةِ أو يتعَمَّدَها، أي: بالسَّهوِ وقِلَّةِ التَّيقُّظِ.
أمَّا التَّغابي فيقالُ تغابى عنه، أي: تغافَلَ، وتظاهَرَ بالغباءِ أو الجهلِ وقِلَّةِ الفِطنةِ.
أمَّا التَّغاضي فيُقالُ: تغاضى عنه، أي: تغافلَ، مِثلُ تغابى عنه.
وتجاهَلَ: تظاهَرَ بالجهلِ؛ أظهَرَ أنَّه جاهِلٌ وليس به. فالألفاظُ الأربعةُ بينها تقارُبٌ في المعنى.
ثالثًا: فوائِدُ التَّغافُلِ
- من أسباب إبقاءِ المودَّةِ بَينَ النَّاسِ.
- من أسبابِ قَطعِ العداواتِ.
- من أسبابِ التَّسامُحِ.
- من أسبابِ قَطعِ الوَحشةِ عن النُّفوسِ.
- من أسبابِ رَفعِ الحَرَجِ والحاجةِ للاعتذارِ.
- صفاءُ قَلبِ المتغافِلِ وعَدَمُ استيحاشِه من النَّاسِ.
- اعتيادُ الإنسانِ ضَبطَ النَّفسِ وكَظمَ الغَيظِ.
- القُدرةُ على مواجهةِ المواقِفِ الصَّعبةِ بهُدوءٍ وسَكينةٍ.
- سلامةُ الدِّينِ والعِرْضِ.
- إلقاءُ محبَّةِ المتغافِلِ في قلوبِ النَّاسِ؛ لِما يرونَه من سماحتِه وحُسنِ مَعشَرِه.
رابعًا: أقسامُ التَّغافُلِ
التَّغافُلُ منه ما هو محمودٌ مُرَغَّبٌ فيه، ومنه ما هو مذمومٌ مُجتَنَبٌ؛ فإذا كان تغافُلًا عن الزَّلَّاتِ والأخطاءِ والعيوبِ التي لا يخلو منها إنسانٌ، أو تغافُلًا عن المعايبِ بسَترِها؛ فهو المحمودُ، وأما التَّغافُل عن المُنكَراتِ أو البِدَعِ، أو التَّغافُلُ عمَّا ينبغي عليه تعاهُدُه أو القيامُ به ونحوُ ذلك؛ فهو التَّغافُلُ المذمومُ.
ومنه التَّغافُلُ عن الضَّيفِ، وقد قالوا: (من صفاتِ المتكَبِّرِ التَّعظُّمُ على الصَّديقِ، والتَّغافُلُ عن الضَّيفِ، والمنُّ على الضَّعيفِ، واحتقارُ من هو دونَه، والخضوعُ لمَن فوقَه).
خامسًا: دَرَجاتُ التَّغافُلِ
الأولى: تركُ الخُصومةِ، وهي دَرَجاتٌ، فلا يخاصِمُ بلِسانِه، ولا ينوي الخصومةَ بقَلبِه، ولا يُخطِرُها على بالِه.
الثَّانيةُ: التَّغافُلُ عن الزَّلَّةِ، فإذا رأى من أحَدٍ زَلَّةً أظهر أنَّه لم يَرَها.
الثَّالثةُ: نِسيانُ الأذيَّةِ، بأن تنسى أذيَّةَ من نالك بأذًى.
سادسًا: موانِعُ اكتِسابِ التَّغافُلِ
- جَهلُ الإنسانِ بعاقبةِ تعقُّبِ الزَّلَّاتِ، وعَدَمِ التَّغاضي عنها، وما ينتُجُ عن ذلك.
- رغبةُ الإنسانِ في الانتصارِ للنَّفسِ.
- اعتِقادُ الإنسانِ أنَّ التَّغافُلَ دليلُ ضَعفِه.
- جَهلُ الإنسانِ بطَبيعةِ نَفسِه التي لا تسلَمُ من خطأٍ أو زَلَلٍ.
- اعتقادُ الإنسانِ أنَّ في التَّغافُلِ غَباءً وحماقةً.
سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ التَّغافُلِ
١- التَّغافُلُ عن زلَّاتِ ذوي الرَّحِمِ، والصَّبرُ على أذاهم، وعَدَمُ قَطْعِهم؛ فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأحسِنُ إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عَلَيَّ، فقال: ((لَئِنْ كُنتَ كما قُلتَ فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ، ولا يزالُ معك من اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك)).
وفي هذا إشارةٌ إلى التَّغافُلِ عن زلَّاتِ الأرحامِ.
٢- تغافُلُ الزَّوجِ عمَّا يَكرَهُ من زوجتِه؛ فقد قالت المرأةُ تمدَحُ زَوجَها: (ولا يُولِجُ الكَفَّ ليعلَمَ البَثَّ).
قال أبو عُبَيدٍ: (أحسَبُه كان بجَسَدِها عيبٌ أو داءٌ تكتَئِبُ به؛ لأنَّ البَثَّ هو الحُزنُ، فكان لا يدخِلُ يَدَه فى ثوبِها؛ ليَمَسَّ ذلك العَيبَ، فيَشُقَّ عليها، تَصِفُه بالكَرَمِ).
قال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (على قَولِ أبي عُبَيدٍ، فإنَّها تكونُ قد مدحَتْه بالإعراضِ والتَّغافُلِ عن الاطِّلاعِ على ما يَحزُنُها من عيبِ جَسَدِها).
يجري من سوءِ ألفاظِهم، وقِلَّةُ اللِّقاءِ لهم مع الحاجةِ إليهم).
٣- التَّغافُلُ عن الحُسَّادِ والمُبغِضينَ وكلامِهم.
قال عَبدُ اللهِ بنُ شَدَّادِ بنِ الهادي يوصي ابنَه: (أيْ بُنَيَّ، وإن سَمِعتَ كَلِمةً من حاسدٍ فكُنْ كأنَّك لستَ بالشَّاهِدِ؛ فإنَّك إن أمضَيتَها حيالَها رجع العَيبُ على من قالها، وكان يقالُ: الأريبُ العاقِلُ هو الفَطِنُ المتغافِلُ.
٤- التَّغافُلُ عند ظُهورِ مَساوئِ النَّاسِ وما يبدو في غَفَلاتِهم؛ من كَشفِ عَورةٍ، أو خروجِ رِيحٍ.
ثامنًا: الوسائِلُ المُعينةُ على اكتِسابِ التَّغافُلِ
- أن يعلَمَ أنَّ التَّغافُلَ من أخلاقِ الفُضَلاءِ والعُلَماءِ.
- أن يعلَمَ أنَّ التَّغافُلَ ممَّا يُعينُ على استجلابِ المودَّةِ وبقائِها.
- أن يعلَمَ أنَّ التَّغافُلَ من أسبابِ قَطعِ العداوةِ.
- أن يعلَمَ أنَّ الكريمَ يُمدَحُ بالتَّغافُلِ عن الزَّلَّةِ.
تاسعًا: أخطاءٌ شائِعةٌ حولَ التَّغافُلِ
١- الاعتقادُ بأنَّ التَّغافُلَ يكونُ أيضًا في حقِّ اللهِ:
وهذا خطَأٌ؛ فإنَّ تغافُلَ الإنسانِ عن حَقِّه، وعفوَه عن زلَّةِ صاحِبِه، وتجاهُلَه رَدَّ الإساءةِ الموجَّهةِ إليه- محمودٌ، بخلافِ التَّغافُلِ عن حَقِّ اللهِ سُبحانَه.
قال ابنُ القَيِّمِ بعدَ أن بَيَّنَ أنَّ المرءَ في حَقِّ نفسِه لا يخاصِمُ بلِسانِه، ولا ينوي الخصومةَ بقَلبِه، ولا يُخطِرُها على بالِه: وأمَّا في حقِّ رَبِّه: فالفُتُوَّةُ أن يخاصِمَ باللهِ وفي اللهِ، ويحاكِمَ إلى اللهِ، كما كان النَّبيُّ ﷺ يقولُ في دعاءِ الاستفتاحِ : ((وبك خاصَمْتُ، وإليك حاكَمْتُ)).
٢- الاعتقادُ بأنَّ التَّغافُلَ لا يكونُ منه إنكارٌ مُطلَقًا:
وهذا اعتقادٌ خَطَأٌ، فلا يلزَمُ من التَّغافُلِ عن الزَّلَّةِ أو الخطَأِ تَركُ إظهارِ الإنكارِ على صاحِبِه بالكُلِّيَّةِ، بل ينبغي إذا تكرَّر الخطَأُ ووقَع الإصرارُ عليه- الإنكارُ على صاحِبِه بالحُسنى، ونُصحُه بالمعروفِ، وإظهارُ سوءِ صنيعِه؛ لرَدعِه عن طَيشِه وتماديه في حُمقِه، خُصوصًا إذا كان في فِعْلِه فَسادٌ.
عاشرًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ
لماذا ذُمَّت الغَفلةُ ومُدِحَ استعمالُها؟
قال ابنُ حَزمٍ: (من عجائِبِ الأخلاقِ أنَّ الغفلةَ مذمومةٌ، وأنَّ استعمالَها محمودٌ، وإنما ذلك لأنَّ من هو مطبوعٌ على الغفلةِ يستعمِلُها في غيرِ مَوضِعِها وفي حيثُ يجِبُ التَّحفُّظُ، وهي تُغَيِّبُ عن فهمِ الحقيقةِ، فدخلَت تحت الجهَلِ، فذُمَّت لذلك، وأمَّا المتيقِّظُ الطَّبعِ فإنَّه لا يضَعُ الغفلةَ إلَّا في موضِعِها الذي يُذَمُّ فيه البحثُ والتَّقصي. والتَّغافُلُ فَهمٌ للحقيقةِ، وإضرابٌ عن الطَّيشِ، واستعمالٌ للحِلمِ، وتسكينٌ للمكروهِ؛ فلذلك حُمِدَت حالةُ التَّغافُلِ، وذُمَّت الغَفلةُ).
حادي عشر: التَّغافُلُ في واحةِ الأدَبِ من الأمثالِ والحكم
- اللُّؤمُ سوءُ التَّغافُلِ .
- أصَمُّ عمَّا ساءَه سَمِيعُ: يُضرَبُ مَثَلًا للرَّجُلِ يتغافَلُ عمَّا يَكرَهُ.
- وقد جرى قولُ بشَّارِ بنِ بُردٍ مَثَلًا حينَ قال: قُلْ ما بدا لك مِن زُورٍ ومِن كَذِبٍ ... حِلْمي أصَمُّ وأُذْني غَيرُ صَمَّاءِ.
- قولُهم: (صَمِّي صَمامِ، وانظُري أينَ المفَرُّ). صَمَامِ يعني النَّعامةَ، يقولُ: تغافَلْ عمَّا يسوءُك، واطلُبِ الخلاصَ منه.
- الكرَمُ حُسنُ الفِطنةِ، واللُّؤمُ قُبحُ التَّغافُلِ .
- يقال: جَعَل كَلامي دَبْرَ أُذُنَيه. إذا لم يلتَفِتْ إليه وتغافَلَ عنه.
- زَينُ الشَّرَفِ التَّغافُلُ.
- وقال أبو العبَّاسِ الفيُّوميُّ: (من كلامِ العَرَبِ: خيرُ أولادِنا الأبْلَهُ الغَفولُ، بمعنى: أنَّه لشِدَّةِ حيائِه كالأبْلَهِ، فيتغافَلُ ويتجاوَزُ؛ فشَبَّه ذلك بالبَلَهِ مجازًا).
والحمد لله رب العالمين.